Saturday, November 3, 2007

ستين شمس وستين ليل

رحلت أمى


منذ شهرين


شهرين الآن مرا على وفاتك يا أمى


كما يقول الأبنودى


ستين شمس وستين ليل


ولم أعرف بعد من فينا الذى قد رحل


ستين شمس وستين ليل بلا أم


ستين نهار بلا دعوات مستجابة


ستين سحربلا حضن يضم


وكأن الحقيقة انتظرت حتى يبلغ سنها شهرين


لكى اصدقها


ولكنى لم أصدقها بعد


الحقيقة التى كنت أظنها لن تقترب منى بينما تنال من الخلق


زمان كنت أظن أن الموت سينال كل آباء وأمهات الخلق


ما عدا أبى وأمى


كنت أظن أن حفرة الموت ستنال كل الخلق


ما عدا أسرتى


فهى محصنة تحصينا منيعا منه


ليس لهذا أى مرجعيات


نحن بالطبع لسنا من الفضاء الخارجى


ولكنه ظن ظننته صغيرا


وحينما كبرت


لم يتركنى ونما معى


ولكنه تبدد فجأة


وكأنى أستعيد كلمة الشاعر أحمد بخيت


وداعا للبكاء بصدر أمى لفيروز العيون الصافيات


لطعم البرتقال لصبح عيد تلألأ بالثياب الزاهيات


لسطح طفولتى لدجاج أمى لأفق باتساع تخيلاتى




اللحظات الأخيرة التى جمعتنا لم تكن كافية لتخمين المستقبل


كانت تتألم نعم


ولم نظن أن هذه آلام النهاية


كانت تمتنع فى لحظات اللآم عن إبداء آلامها


كى نظل نستمتع ولا نغتم


أمى أصابها السرطان


ولم ترد أن تكشف


لأنها كانت تخاف أن يراها أحد


أو يكشف عليها أحد


وحينما أصررنا


مضت رغما عنها للكشف


قبلها كانت هناك مناسبة عائلية دعتنا للتصوير


فوقفنا كلنا صفا واحدا


أنا وهى وأبى وزوجتى وأخى وأختى


فى الصورة كانت تجاهد لتبتسم


فلا تعرف ما المرتسم على ملامح وجهها


أهى ابتسامة


أم محاولة مخفقة لإخفاء الألم


وكانت تمسك بطنها فى الصورة


المكان الذى أصابها فيه السرطان


حينما توقفت عن التدوين منذ أكثر من أربعة أشهر


كنت متوقفا رغما عنى


بسبب إمتحانات انشغلت بها


ثم أننى كنت أبحث عن موضوع مختلف أعود به إلى التدوين


فإذا بى أستأنف التدوين بالكتابة عن موت أمى


وموت أمى الذى لم أتصوره


جاء مباغتا


بدون إنذار


لم تشتك أمى قبلها من المرض


اشتكت فقط من بعض الآلام


ثم مضينا للكشف


والفحص


والآشعة


إلى آخر هذه المصطلحات المتعبة


فإذا بنا نجد أنفسنا أمام السرطان


سرطان القولون


وأنه ليس حميدا


وأننا بحاجة للجراحة


كنت فى كل هذا غائبا


وحينما هاتفونى بالنتائج


لم أصدق


بوغت


واستأذنت للسفر


كى ألحق أمى


وأراها قبل العملية


لم يخطر لى على بال أنها لن تنجو


كنت واثقا من النجاة


الظن الذى ظننته صغيرا كان لم يزل يراودنى


لذلك كان طبيعيا أن اهبط من الأتوبيس الذى وصل فجرا وأذهب لأبيت فى بيتى


بدلا من أذهب لأنعم بحضنها للمرة الأخيرة


وفى الصباح ذهبت إليها


قبل العملية


حينما دخلوا عليها صباحا بدونى


سألتهم عنى


فين وجدى


وكأنها كانت مشتاقة


دخلت عليها


وحضنتها


وقلت لها


يا ماما انتى هتكونى إن شاء الله كويسة


أنا مش هدعيلك


أنا عايزك أنتى اللى تدعيلى


وعايزك تدعي لنور ابنى


عشان هو أصغر احفادك وغلبان قوى ومحتاج دعاكى


ضحكت


وفرحت أنها ضحكت


وخرجت من أحساس العلمية والمرض والخطر


ودخلت العمليات


وفى العملية


نزفت


ونزفت


ونزفت


ولم تفق من البنج


واخرجوها تنزف إلى العناية الفائقة


وظللنا نتحلق حولها بينما هى فى غيبوبتها الدائمة


وهم يمدونها بالدم


لتعويض الدم النازف


ثلاثة أيام فى العناية الفائقة


ثم يصرح الأطباء بالقرار النهائى


بالحقيقة


بوفاة جذع المخ نتيجة لتأثره بالنزيف الشديد أثناء الجراحة


وداعا يا أمى


ورد في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد فى سبيل الله


شعرت أنها المحظوظين فى وقت من الأوقات


فقد نالت منزلة عظيمة


ونحن من البؤساء


فقد أخذت منا على غرة


وبدون أى تمهيد


نالت أمى درجة الشهادة


وارتاحت من آلام بعد العملية


وآلام الجراحة


وآلام نفسية كثيرة


استجاب الله لدعاؤها المستمر


بألا يحوجها إلى أحد


وألا يذلها لأحد


ولكن من تركتى خلفك يا أمى


لم يزل بحاجة إليك


لم يزل يفكر فيك


ويتعلق بجلبابك


وحشتينى يا أمى


وحشتينى


لكن لا أملك إلا أن أقول


يرحمك الله


وأسكنك فسيح جناته


فى منزلة الشهداء


وأنار لك المكان الذى ترقدين فيه