دعوت الموت إلى فنجان قهوة داخل محل البن البرازيلي.
جلسنا متقابلين على نفس المائدة، وسألته إن كان يرغب في سندوتش فول بجانب قهوته، لكنه لم يجبني.
حاولت أن أتوصل معه لصيغة تفاهم.
يتركني أنقذ حالتين من بين كل عشرة على قائمته.
أيضًا لم يجب.
لمحت عبده اغتيالات يشير لي من السيارة ويطلق بوقها مرتين فنهضت تاركًا الموت وحيدًا وقهوتي التي لم أشربها.
قال لي عبده في حنق:
- ماذا دهاك يا عم أنت؟ جننت؟ أشير إليك لأننا سننطلق، مهمتنا هي إنقاذ الأرواح وليس شرب القهوة.
أقول في حدة:
- مهمتنا هي شرب القهوة يا عبده.. أي بلاغ أهم من القهوة؟
حدق فيّ عبده صامتًا، ثم فتح باب السيارة لكي أركب، وصاح في:
- اركب يا نعيم الله لا يسيء إليك، أنت بدأت تخرف منذ وفاة عمك.
ألقيت بجسدي في حنق بجواره، غادر منطقة وسط البلد إلى جهة مجهولة، كل شيء يبدو مشوشرًا في عيني، الليل يختلط بالنهار والشمس بالقمر، المرات التي زرت فيها أمي وجدتها كما هي راقدة في حجرة العناية المركزة بدون حراك، ملامحها تقول إنها لن تفيق، تقول إنها لن تصحو لتحيا بكيس براز، سمعتها في إحدى تلك الزيارات تحدثني، بحثت عن حركات للشفاه فوجدتها منطبقة لكن الصوت يتدفق على عقلي هامسًا:
- لا تجهد نفسك بزيارتي يا نعيم، اتركني مثل أختك، مثل الجميع، أنا لن أستيقظ أبدًا.
علاماتها الحيوية تقول إن أجهزة التنفس الصناعي تعمل جيدًا، ولكنها لا تفصح أي شيء عن أمي، أحيانًا تطلق صفيرًا، تصرخ الممرضة، فيهرع الطبيب لإنعاش قلبها الذي سقطت منه نبضة، تصرخ أمي في عقلي:
- دعهم يكفون عن تعذيبي، دعهم يتركوني أرحل.
يصدمها الطبيب صدمات كهربائية تجعلني أصرخ باكيًا، لكن قلبها يعود يحافظ على نبضات متزنة، كل شيء يعمل في جسد أمي آليًا، يمدها جهاز التنفس الصناعي بالهواء، تتنفس الرئتان فتعملان، يعمل القلب ويضخ الدم، تعمل المثانة وترسل بولها في القسطرة، لكن روح أمي التي أسمع صوتها في عقلي هي التي تأبى أن تعمل آليًا.
يصل عبده إلى منطقة البلاغ، أشعر أنني كنت هنا من قبل، ينظر لي عبده وهو يراني أتفحص المنطقة في ألفة، ثم لا يتركني طويلاً لحيرتي، يقول عبده:
- زوج الدمية، هذه المرة أطلق النار على نفسه من مسدس الشاويش الذي يحتفظ به.
حول منزل الرجل كان الجيران هذه المرة قد تشجعوا والتفوا ينتظرونا، أحدهم كان يقول ساخرًا:
-خلصونا منه ومن مسدس أبيه، كان عامل إرهاب في المنطقة.
وآخر كان يقول:
-ربنا ينجيه، كله من زوجته التي غدرت به وخانته، قبلها كان رجلا كله عقل وحكمة.
حينما وضعناه داخل عربة الإسعاف جلست بجواره ووضعت قناع التنفس على وجهه، وكنت أستعد لحقنه محقنًا يوقف النزيف، أمسك يدي على الرغم من صدره النازف ونزع عن وجهه القناع، وقال في ضعف:
- أريد أن أموت، إذا طلب أحدهم منك الرحمة لن ترحمه، اتركني أموت.
توقفت أمام رغبة الرجل في الموت، انحنيت عليه مقتربًا من أذنه:
- لن أحقنك بشيء، سيقتلك النزيف على أي حال.
وصلنا المستشفى، كنت أراقب الرجل ونزيفه المستمر، روحه كانت مستعصية على مغادرة جسده، حملناه داخل طرقات المستشفى إلى منطقة استقبال الحوادث، حقنوه هناك بما لم أحقنه داخل عربة الإسعاف، ظل يرمقني في يأس وهم ينقلون له الدم عوضًا عن نزيفه، غادرت المستشفى إلى أمي، استوقفني عبده بالخارج مناديًا أكثر من مرة:
- نعيم.. إلى أين؟
لم أجبه، كنت لم أزل بسترتي الخضراء، أوقفت تاكسيًا انطلق بي إلى المستشفى التي ترقد بها أمي، هذه المرة نحن وحدنا يا أمي، تناديني:
- نعيم.. هل أنت هنا؟
كأنها تتحقق مني، على الرغم من أن الصوت لا يسمعه سوى عقلي، لكنى كنت أثبت نظراتي على شفتيها، خرجت كلماتي مسموعة وعالية وأنا أقول:
- انتصار.. لو أنك تسمعيني الآن، أرجوك حركي قدميك.
لم يبد أنها سمعت شيئًا، إذ جاءني صوت في عقلي يهمس قائلاً:
- أين كنت؟ دعني أرحل يا نعيم، أطلق سراحي يا بني.
صرخت بصوت مسموع:
- يا أماه.. أرجوك حركي أي شيء من جسدك، يدك، قدمك، أصابعك، أرجوك.
جاءت الممرضة على صوتي العالي، توقفت حينما رأت سترة الإسعاف الخضراء، قالت في ريبة:
- أنت جلبت هذه الحالة؟
ظللت أنظر إلى أمي التي هرب صوتها من عقلي تمامًا، ثم التفت إلى الممرضة وقلت مشوشًا:
- بل هي التي جلبتني.
جلسنا متقابلين على نفس المائدة، وسألته إن كان يرغب في سندوتش فول بجانب قهوته، لكنه لم يجبني.
حاولت أن أتوصل معه لصيغة تفاهم.
يتركني أنقذ حالتين من بين كل عشرة على قائمته.
أيضًا لم يجب.
لمحت عبده اغتيالات يشير لي من السيارة ويطلق بوقها مرتين فنهضت تاركًا الموت وحيدًا وقهوتي التي لم أشربها.
قال لي عبده في حنق:
- ماذا دهاك يا عم أنت؟ جننت؟ أشير إليك لأننا سننطلق، مهمتنا هي إنقاذ الأرواح وليس شرب القهوة.
أقول في حدة:
- مهمتنا هي شرب القهوة يا عبده.. أي بلاغ أهم من القهوة؟
حدق فيّ عبده صامتًا، ثم فتح باب السيارة لكي أركب، وصاح في:
- اركب يا نعيم الله لا يسيء إليك، أنت بدأت تخرف منذ وفاة عمك.
ألقيت بجسدي في حنق بجواره، غادر منطقة وسط البلد إلى جهة مجهولة، كل شيء يبدو مشوشرًا في عيني، الليل يختلط بالنهار والشمس بالقمر، المرات التي زرت فيها أمي وجدتها كما هي راقدة في حجرة العناية المركزة بدون حراك، ملامحها تقول إنها لن تفيق، تقول إنها لن تصحو لتحيا بكيس براز، سمعتها في إحدى تلك الزيارات تحدثني، بحثت عن حركات للشفاه فوجدتها منطبقة لكن الصوت يتدفق على عقلي هامسًا:
- لا تجهد نفسك بزيارتي يا نعيم، اتركني مثل أختك، مثل الجميع، أنا لن أستيقظ أبدًا.
علاماتها الحيوية تقول إن أجهزة التنفس الصناعي تعمل جيدًا، ولكنها لا تفصح أي شيء عن أمي، أحيانًا تطلق صفيرًا، تصرخ الممرضة، فيهرع الطبيب لإنعاش قلبها الذي سقطت منه نبضة، تصرخ أمي في عقلي:
- دعهم يكفون عن تعذيبي، دعهم يتركوني أرحل.
يصدمها الطبيب صدمات كهربائية تجعلني أصرخ باكيًا، لكن قلبها يعود يحافظ على نبضات متزنة، كل شيء يعمل في جسد أمي آليًا، يمدها جهاز التنفس الصناعي بالهواء، تتنفس الرئتان فتعملان، يعمل القلب ويضخ الدم، تعمل المثانة وترسل بولها في القسطرة، لكن روح أمي التي أسمع صوتها في عقلي هي التي تأبى أن تعمل آليًا.
يصل عبده إلى منطقة البلاغ، أشعر أنني كنت هنا من قبل، ينظر لي عبده وهو يراني أتفحص المنطقة في ألفة، ثم لا يتركني طويلاً لحيرتي، يقول عبده:
- زوج الدمية، هذه المرة أطلق النار على نفسه من مسدس الشاويش الذي يحتفظ به.
حول منزل الرجل كان الجيران هذه المرة قد تشجعوا والتفوا ينتظرونا، أحدهم كان يقول ساخرًا:
-خلصونا منه ومن مسدس أبيه، كان عامل إرهاب في المنطقة.
وآخر كان يقول:
-ربنا ينجيه، كله من زوجته التي غدرت به وخانته، قبلها كان رجلا كله عقل وحكمة.
حينما وضعناه داخل عربة الإسعاف جلست بجواره ووضعت قناع التنفس على وجهه، وكنت أستعد لحقنه محقنًا يوقف النزيف، أمسك يدي على الرغم من صدره النازف ونزع عن وجهه القناع، وقال في ضعف:
- أريد أن أموت، إذا طلب أحدهم منك الرحمة لن ترحمه، اتركني أموت.
توقفت أمام رغبة الرجل في الموت، انحنيت عليه مقتربًا من أذنه:
- لن أحقنك بشيء، سيقتلك النزيف على أي حال.
وصلنا المستشفى، كنت أراقب الرجل ونزيفه المستمر، روحه كانت مستعصية على مغادرة جسده، حملناه داخل طرقات المستشفى إلى منطقة استقبال الحوادث، حقنوه هناك بما لم أحقنه داخل عربة الإسعاف، ظل يرمقني في يأس وهم ينقلون له الدم عوضًا عن نزيفه، غادرت المستشفى إلى أمي، استوقفني عبده بالخارج مناديًا أكثر من مرة:
- نعيم.. إلى أين؟
لم أجبه، كنت لم أزل بسترتي الخضراء، أوقفت تاكسيًا انطلق بي إلى المستشفى التي ترقد بها أمي، هذه المرة نحن وحدنا يا أمي، تناديني:
- نعيم.. هل أنت هنا؟
كأنها تتحقق مني، على الرغم من أن الصوت لا يسمعه سوى عقلي، لكنى كنت أثبت نظراتي على شفتيها، خرجت كلماتي مسموعة وعالية وأنا أقول:
- انتصار.. لو أنك تسمعيني الآن، أرجوك حركي قدميك.
لم يبد أنها سمعت شيئًا، إذ جاءني صوت في عقلي يهمس قائلاً:
- أين كنت؟ دعني أرحل يا نعيم، أطلق سراحي يا بني.
صرخت بصوت مسموع:
- يا أماه.. أرجوك حركي أي شيء من جسدك، يدك، قدمك، أصابعك، أرجوك.
جاءت الممرضة على صوتي العالي، توقفت حينما رأت سترة الإسعاف الخضراء، قالت في ريبة:
- أنت جلبت هذه الحالة؟
ظللت أنظر إلى أمي التي هرب صوتها من عقلي تمامًا، ثم التفت إلى الممرضة وقلت مشوشًا:
- بل هي التي جلبتني.
No comments:
Post a Comment