رحلت أمى
منذ شهرين
شهرين الآن مرا على وفاتك يا أمى
كما يقول الأبنودى
ستين شمس وستين ليل
ولم أعرف بعد من فينا الذى قد رحل
ستين شمس وستين ليل بلا أم
ستين نهار بلا دعوات مستجابة
ستين سحربلا حضن يضم
وكأن الحقيقة انتظرت حتى يبلغ سنها شهرين
لكى اصدقها
ولكنى لم أصدقها بعد
الحقيقة التى كنت أظنها لن تقترب منى بينما تنال من الخلق
زمان كنت أظن أن الموت سينال كل آباء وأمهات الخلق
ما عدا أبى وأمى
كنت أظن أن حفرة الموت ستنال كل الخلق
ما عدا أسرتى
فهى محصنة تحصينا منيعا منه
ليس لهذا أى مرجعيات
نحن بالطبع لسنا من الفضاء الخارجى
ولكنه ظن ظننته صغيرا
وحينما كبرت
لم يتركنى ونما معى
ولكنه تبدد فجأة
وكأنى أستعيد كلمة الشاعر أحمد بخيت
وداعا للبكاء بصدر أمى لفيروز العيون الصافيات
لطعم البرتقال لصبح عيد تلألأ بالثياب الزاهيات
لسطح طفولتى لدجاج أمى لأفق باتساع تخيلاتى
اللحظات الأخيرة التى جمعتنا لم تكن كافية لتخمين المستقبل
كانت تتألم نعم
ولم نظن أن هذه آلام النهاية
كانت تمتنع فى لحظات اللآم عن إبداء آلامها
كى نظل نستمتع ولا نغتم
أمى أصابها السرطان
ولم ترد أن تكشف
لأنها كانت تخاف أن يراها أحد
أو يكشف عليها أحد
وحينما أصررنا
مضت رغما عنها للكشف
قبلها كانت هناك مناسبة عائلية دعتنا للتصوير
فوقفنا كلنا صفا واحدا
أنا وهى وأبى وزوجتى وأخى وأختى
فى الصورة كانت تجاهد لتبتسم
فلا تعرف ما المرتسم على ملامح وجهها
أهى ابتسامة
أم محاولة مخفقة لإخفاء الألم
وكانت تمسك بطنها فى الصورة
المكان الذى أصابها فيه السرطان
حينما توقفت عن التدوين منذ أكثر من أربعة أشهر
كنت متوقفا رغما عنى
بسبب إمتحانات انشغلت بها
ثم أننى كنت أبحث عن موضوع مختلف أعود به إلى التدوين
فإذا بى أستأنف التدوين بالكتابة عن موت أمى
وموت أمى الذى لم أتصوره
جاء مباغتا
بدون إنذار
لم تشتك أمى قبلها من المرض
اشتكت فقط من بعض الآلام
ثم مضينا للكشف
والفحص
والآشعة
إلى آخر هذه المصطلحات المتعبة
فإذا بنا نجد أنفسنا أمام السرطان
سرطان القولون
وأنه ليس حميدا
وأننا بحاجة للجراحة
كنت فى كل هذا غائبا
وحينما هاتفونى بالنتائج
لم أصدق
بوغت
واستأذنت للسفر
كى ألحق أمى
وأراها قبل العملية
لم يخطر لى على بال أنها لن تنجو
كنت واثقا من النجاة
الظن الذى ظننته صغيرا كان لم يزل يراودنى
لذلك كان طبيعيا أن اهبط من الأتوبيس الذى وصل فجرا وأذهب لأبيت فى بيتى
بدلا من أذهب لأنعم بحضنها للمرة الأخيرة
وفى الصباح ذهبت إليها
قبل العملية
حينما دخلوا عليها صباحا بدونى
سألتهم عنى
فين وجدى
وكأنها كانت مشتاقة
دخلت عليها
وحضنتها
وقلت لها
يا ماما انتى هتكونى إن شاء الله كويسة
أنا مش هدعيلك
أنا عايزك أنتى اللى تدعيلى
وعايزك تدعي لنور ابنى
عشان هو أصغر احفادك وغلبان قوى ومحتاج دعاكى
ضحكت
وفرحت أنها ضحكت
وخرجت من أحساس العلمية والمرض والخطر
ودخلت العمليات
وفى العملية
نزفت
ونزفت
ونزفت
ولم تفق من البنج
واخرجوها تنزف إلى العناية الفائقة
وظللنا نتحلق حولها بينما هى فى غيبوبتها الدائمة
وهم يمدونها بالدم
لتعويض الدم النازف
ثلاثة أيام فى العناية الفائقة
ثم يصرح الأطباء بالقرار النهائى
بالحقيقة
بوفاة جذع المخ نتيجة لتأثره بالنزيف الشديد أثناء الجراحة
وداعا يا أمى
ورد في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد فى سبيل الله
شعرت أنها المحظوظين فى وقت من الأوقات
فقد نالت منزلة عظيمة
ونحن من البؤساء
فقد أخذت منا على غرة
وبدون أى تمهيد
نالت أمى درجة الشهادة
وارتاحت من آلام بعد العملية
وآلام الجراحة
وآلام نفسية كثيرة
استجاب الله لدعاؤها المستمر
بألا يحوجها إلى أحد
وألا يذلها لأحد
ولكن من تركتى خلفك يا أمى
لم يزل بحاجة إليك
لم يزل يفكر فيك
ويتعلق بجلبابك
وحشتينى يا أمى
وحشتينى
لكن لا أملك إلا أن أقول
يرحمك الله
وأسكنك فسيح جناته
فى منزلة الشهداء
وأنار لك المكان الذى ترقدين فيه
2 comments:
ربنا يصبرك
و يصبر كل شخص فقد عزيز عليه
انت مش متخيل انا قشعرت قد ايه و عيط من كتر ما احساسك وصلني
ربنا يرحمها
و يرحم موتانا جميعا يا رب
أشكرك على إحساسك الجميل وتعزيتك
Post a Comment